وصف القصة
الجزء الثاني من السلسلة القصصية. قرر عامر أن يأخذ بنصيحة صديقه فالماضي لن يعود. فتعرف على رهف, التي بدأت تنسيه شيئا فشيئا في خيبته و خذلانه.
حول الكاتب
ملحوظة: هذا هو الجزء الثاني من السلسلة. الجزء الأول تجده هنا.
"هل أنت متأكد أنك تريد فعل هذا؟" سألت هند مرة أخرى و هي ترافق أخاها بين المحلات. يحمل وجهها بعض القلق و بعض الاهتمام لأخيها الوحيد و سندها القوي في الحياة.
"لما لا؟" أجاب عامر بدون تردد و عيناه تلوحان بين واجهات المتاجر "حازم أخبرني أن هذه الفتاة طيبة و من أسرة محترمة. ستكون خطبة تقليدية لا ضرر فيها. "
لقد قضى عامر أسبوعا كاملا و هو يفكر في كلام صديقه حازم, الذي نصحه بالتفكير في المستقبل, بكل جدية. لقد كان هذا الأخير محقا, لا يمكنه أن يبقى أسير الماضي فخطيبته السابقة تركته و سوف تصير زوجة شخص أخر. و يجب عليه هو الأخر أن يجد امرأة طيبة القلب تشاركه حياته حلوها و مرها.
"و لكن ألست متسرعا." تحججت هند "هل انت فعلا مستعد للدخول في علاقة أخرى بهذه السرعة فلم يمر سوى شهر على تلك الحادثة؟ تذكر أنك سوف ترتبط بفتاة بريئة لا شأن لها في ماضيك فلا تهملها أو تسئ معاملتها."
"لا، لا داعي لان تقلقي من هذا الموضوع." طمأن عامر أخته و هو يشير إلى أحد المحلات للدخول إليها.
في البداية شعر عامر بإحباط شديد و فراغ مرعب. و بدأ ينعزل عن العالم شيئا فشيئا فلا يخرج لملاقاة أصحابه و لا يتجول في حيه خوفا من لقاءها و إحياء ذكرى تلك المرأة فيه.
و لكن بعد مرور مدة و مع مساعدة صديقه حازم الذي حاول إضفاء جو البهجة و السعادة في حياته, بدأ الفراغ و الخيبة بالزوال تدريجيا. ما عاد يتحاشى المرور بشارعها و نقص تفكيره بها. كما أن مها في الماضي كانت تغيب لأيام و أسابيع دون أن يسمع عامر منها شيئا. هذه المرة نفس الشيء مع فارق أن غيابها سوف يكون أبدي.
"لا عليك من هذا الموضوع. هل تعرفين ما نوع الهدايا الي يجب شراءها." تساءل عامر و هو يرمق مختلف الهدايا الموجودة في المحل. في العادة كان يترك أمر اختيار الهدايا لوالدته لك هذه المرة والدته لم تستطع القدوم فأرسلت هند بدلا عنها.
"لا داعي لأن تقلق من هذا والموضوع صحيح أن أمي ليست هنا لاصطحابك لكني في مكانها. أعدك كل شيء..." بينما كانت هند تطمئن شقيقها لاح بين عيناها شخص مألوف جعل قلبا ينقبض. فرت الحروف من لسانها و هي تحدق في تلك المرأة الواقفة قريبا منها.
"هند, ما الأمر؟" اكتشف عامر سلوك هند الغريب فتابع بصره اتجاه نظرها ليرى خطيبته السابقة, مها, واقفة أمامهم. بيدها تحمل هاتفا نقالا وضعته على أذنها تكلم شخصا ما و في يدها الأخرى تتفحص السلع بتمعن.كانت ملابسها فاخرة و توحي بالترف و الغنى بينما كان هاتفها ثمينا من أخر طراز.
"مها." تمتمت هند بصوت غير مسموع و عيناها لمعت بالدموع. مها، جارتها، زميلتها بالدراسة في صغرها، صديقة طفولتها و شبابها, و أيضا الشخص الذي قطع علاقتها معها بكل فتور دون أي تفسير.
سمعت مها الاسم المألوف فأشاحت بنظرها إليهم. عندما رأت عامر و هند تصلبت في مكانها و بدى على وجهها الانبهار أولا ثم الانزعاج. زمت شفتيها في غيظ قبل أن تعيد السلعة مكانها و تمر محاذاة هند نحو المخرج دون أن تنبس بكلمة.
"لا شيء. ماذا كنت تقول؟" عادت مها تتحدث في الهاتف متجاهلة هند و عامر كليا. كأنها مرت بغريبين لا تعرف شيئا عنهما و ليسا رفيقا طفولتها.
عضت هند شفتيها و قلبها يعتصر ألما, كأن أشواك مدببة حادة تطعنه بلا هوادة. أهكذا يتغير الإنسان بكل سهولة, أيمكنه أن يتبر كل الذكريات و الأحداث و المشاعر التي مر بها من قلبه و يتظاهر كأنها لم تحدث يوما . كانتا أقرب من شقيقتين و الآن صارتا مجرد غريبتين لا يتبادلان التحية حتى. ذلك الخطيب المزعوم ليس هنا فكان بإمكانها على الأقل أن تحاول تبرير نفسها لكن هذه الأخيرة تصرفت كأنها لم تراهم حتى, ملتزمة كل الالتزام بالأوامر الصارمة .
"هل أنت بخير، هند؟" سأل عامر في قلق و توتر. لم يتوقع أن تتصرف مها بهذه الطريقة أمام هند. إذا قامت بتجاهله فهو أمر عادي لإبعاد الشبهات و يمكنه تفهم الأمر. و لكن ماذا عن هند؟
"لا عليك, أنا بخير." ردت هند بابتسامة مصطنعة و هي تمسح عيناها.
عجيب أمر الحياة. يلتقي الغرباء و يصبحون أصدقاء. ثم تدور عجلة الزمن ليصير هاذين الصديقين كغريبين كأنهما لم يتعارفا يوما، متناسين كل أحداث و ذكريات الماضي.
في ذلك اليوم، بقيت هند تحاول الاتصال بمها طوال الليل آمله أن هذه الأخيرة تتراجع عن قرارها و تلغي الحظر على هاتفها. لا تدري عدد الاتصالات التي قامت بها و لكنها على الأرجح فاقت المائة اتصال. لكنها لم تتلق أي رد, و لا حتى رسالة قصيرة تطمئن فؤادها الممزق. قضت هند ليلة طويلة رافقتها دموعها المنهارة و آمالها المحطمة.
و في اليوم الموالي ذهبت إلى منزل مها الذي لا طالما قضت فيه وقتها في صغرها. و لكن بدلا من أن ترحب بها مها بحبور كعادتها قابلتها أم هذه الأخيرة التي نظرت إليها بعبوس و سخط.
"مها ليست هنا." أعلمتها ببرود "لقد غادرت المنزل مبكرا هذا الصباح."
"إذا سآتي في وقت أبكر غدا." اقترحت هند. المهم أن تجد فرصة للقاء مها و تفسير الأمور.
"لا داعي لأن تفعلي ذلك فأنت لن تجديها بعد الآن. لذا من الأفضل أن لا تضيعي وقتك." قالتها بكل برود و هي تغلق الباب في وجه هند. لقد قامت والدة مها بطردها بعد نصحها بالابتعاد عن ابنتها. بخاطر مكسور غادرت هند و هي تقسم ألا تطأ قدماها مدخل هذا البيت مجددا.
كانت هذه المرة الاولى التي تلقى فيها هند مها بعد أن قدمت لها هدية لعيد ميلادها في ذلك اليوم. آنذاك قبلت مها الهدية بكل حبور و امتنان، لم تحاول حتى اخبارها بأنها صارت مخطوبة لشخص آخر. و لكن في ذلك المساء قررت أن تقطع علاقتها بها كليا.
"أظن أنه من الأفضل أن نعود" اقترح عامر و هو يرى ملامح الحزن و الأسى في وجه شقيقته. و ازدادت خيبته من مها. أحيانا لا يرى الإنسان عيوب غيره إلا بتلقي صدمة قوية منه. و كلما أحب الإنسان شخصا ما و ازداد قدره عنده, كلما اعتقد انه مميز و مثالي فيتغاضى النظر عن عيوبه و يتحاشاها, و هكذا كان الحال مع عامر و هند.
"لا" ألحت هند بتصميم "لا داعي لن نضيع وقتنا الثمين في الحزن لأننا التقينا بها. هي لا تستحق ذلك."
"و لكن..."
"لا داعي للقلق علي. لا أظن أن لقاء مها ثقيل لدرجة أنه يفسد يومي بأكمله أليس كذلك؟" أعطت هند شقيقها ابتسامة باهتة و هي تصر على عدم العودة للبيت.
فعلا, مها هي التي اختارت أن تدمر صداقتهما من دون سبب, هي التي استغلت طيبة أخاها, هي المذنبة في كل هذا. لم عليها أن تفسد يومها الجميل بعد لقاء شخص جاحد مثلها؟
ابتسم عامر لكن قلبه كان مثقلا بالإحباط و بخيبة الأمل. هذا اللقاء القصير مع مها قد أعاد فتح أبواب بعض الذكريات التي حاول جاهدا طمسها خلال الشهر الماضي. اشتدت قبضته على يده بينما هو يحاول الهاء نفسه بالحديث مع هند.
*************************************************
حل يوم الجمعة، يوم الزيارة الرسمية لبيت رهف, الفتاة التي تكلم عنها حازم. اصطحب عامر في زيارته والدته و عمته فوالده متوفي منذ ست سنوات. سار ثلاثتهم بين الأحياء الشعبية فبيت رهف في حي مجاور لهم.
"هل أنت متوتر يا بني؟" تساءلت أم عامر و هي تنظر إلى ابنها بسرور و رضا.
"قليلا." بكل صراحة كان عامر متوترا للغاية بالكاد يستطيع التفكير في رد مقنع.
كيف لا و هو لا يعرف رهف و لم يقابلها في حياته يوما, لا يعرف أخلاقها و لا شخصيتها. ماذا لو أنها سيئة الطباع؟ ماذا لو كانت جشعة مثل مها؟ فهو يعرف الأخيرة منذ طفولتها لكن عيناه اعميت عن صفاتها السيئة.
كأن والدته قرأت الافكار التي تجوب خاطر ابنها فطمأنت "إن رهف فتاة محترمة و خلوقة. لقد سألت الجيران عنها و هم يعرفونها. إنها تعمل كمعلمة في أحد المدارس الابتدائية الخاصة بالفتيات. و هي لطيفة المعشر حسنة الخلق. الجميع يشهد على رقي أخلاقها."
"لقد سألت عنها أيضا عن عائلتها. هم أناس محترمون معروفون في المنطقة و الكل يشهد على ذلك." طمأنت عمته.
بعد السؤال عن العنوان عدة مرات من المارة، وجد عامر أخيرا المنزل المطلوب. كان شقة في أحد العمارات، تماما مثل منزله و منزل مها. عاد التوتر يسكن قلب عامر. هل سوف يعامل بنفس الطريقة التي عاملاه بها والدي مها؟
بعد تردد قصير دق الباب ليفتح ببطيء بعد بضعة ثواني قصيرة، مخبئا وراءه رجل ستيني تشي ملامحه بكثير من الطيبة و الوقار.
"أهلا ضيوفنا الكرام" رحب والد رهف بكل حفاوة و حبور و هو يشير إليهم بالدخول فاتحا الباب على موسعه.
حياه عامر و هو يتمعن في وجهه العجوز, أمارات الفرح و البهجة واضحة عليه. لم يعط هذا الاستقبال يوما عندما كان يزور بيت مها بل كان والدها يقابله بوجه عابس كريه.
أتت والدة رهف المبتسمة هي الأخرى و قادت النسوة إلى مجلس النساء بينما تبع عامر والد رهف لقاعة الضيوف بعد حديث خفيف في مواضيع مختلفة بدأ عامر الكلام عن الرسميات. كان والد مها يستمع إليه و يراقبه بتمعن شديد.
"ابنتي هي كنزي الوحيد يا بني و زهرة عمري و حياتي. أتمنى أن أجد شخصا يهتم بها كما فعلت, أن يخاف عليها و يصونها من كل سوء." تكلم الوالد و في عينيه نظرة حنان و رأفة.
ها هي اللحظة الحاسمة. دار في خلد عامر بينما القلق يغتمر قلبه. لطالما استفتح والد مها حديثه عن شروطه التعجيزية المستحيلة بهذه الطريقة.
"لدي شرط وحيد يا بني" قال والد مها بانهزام, كأنه لا يريد أ يفارق ابنته لرجل اخر لكنه يدرك أنها سنة الحياة التي وجب عليه الخضوع لها.
اندهش عامر من كلام الرجل. لديه مطلب وحيد فقط؟ عادت به الذكرى إلى ذلك اليوم في بيت مها. كان أول شيء يشترطه والدها هو بيت بثلاث غرف على الأقل في أحد الأحياء الميسورة. انتظر عامر والد مها ليكمل كلامه و عيناه تشعان فضولا.
"ابنتي رهف تريد الإبقاء على وظيفتها بعد الزواج." تكلم الرجل العجوز بشيء من الفخر "لطالما كان حلمها أن تعمل كمعلمة. لقد عملت بجد و تعبت كثيرا حتى تحصل على هذه الوظيفة و هي لا تريد أن تفارقها."
"تحب رهف التدريس كثيرا فقد كان حلم طفولتها، أن تربي الأجيال الصاعدة و تزرع القيم الصالحة فيهم. كما أن محيط عملها محترم فهي تعمل في مدرسة خاصة بالبنات فقط و كل زميلاتها نسوة لذلك لا داعي للقلق من احتكاكها برجال غرباء."
اندهش عامر من هذا الطلب و بدا على محياه الذهول و الحيرة. رمق والد رهف الشاب قبل أن يسأله "هل أنت رافض لهذا الطلب البسيط يا بني.؟"
"بالطبع لا." هو فقط كان مندهشا من هذا الطلب فقد ظن أنه سيطلب مهرا غاليا أو هدايا ثمينة. فوالدي مها لم يتحدثا أبدا عن هذا الموضوع لذلك لم يكن ينتظر طلبا كهذا. بعد التفكير لمدة أضاف ببعض من الحماس "من الجيد أن يكون لديها طموحات و أحلام تتمنى تحقيقها. بالطبع سوف أكون خير سند لها في تحقيقها."
ابتسم والد مها بعمق و راحة, كأن حملا ما أزيح من على عاتق كتفيه المتعبين. نهض ببطيء قبل أن يعلم عامر ثم يطل من الباب "الأن يسوف أنادي لبنتي."
أومأ عامر برأسه و دقات قلبه تزداد سرعة. سوف يقابل رهف لأول مرة. بعد ثوان سمع همسات تتعالى من الغرفة المجاورة مصحوبة بصوت خطوات ضعيفة.
"السلام عليكم" صوت رقيق حالم حيا الجماعة في استحياء بينما دخلت رهف المجلس. كانت ترتدي فستانا طويلا محتشما فضفاضا، لونه أزرق خلاب, و تحمل صينية مشروبات بين يديها. لمحها عامر بنظرة خاطفة قبل أن يطأطأ رأسه خجلا. لم يستطع حتى أن يرى وجهها بتمعن.
سمع عامر وقع خطوات رهف و هي تتحرك بين الكراسي موزعة أكواب العصير ".تفضل." قالت بصوت خافت ناعم يدغدغ القلوب.
جلست رهف و طأطأت رأسها هي الأخرى في خجل. ساد صمت محرج الغرفة قبل أن يقوم والد رهف بكسره "ما بكما؟ إنه يوم النظرة الشرعية. عليكما على الأقل أن تتبادلا بعض الكلمات بينكما."
احمر وجه عامر خجلا. لم يشعر بمثل هذا الإحراج مع مها فهو يعرفها منذ الطفولة. لكن رهف مختلفة فهذا هو أول لقاء له بها. لم يستطع أن يمنع الخجل من السيطرة عليه.
رفع عامر عينيه ببطيء. لمح أولا شعرا طويلا ناعم، أسود سواد ليل بلا قمر و لا نجوم. بعد ذلك لمح وجهها. كانت ذو ملامح هادئة لطيفة تشرح القلب و تهدئه.
كأنها شعرت بنظراته نحوها، رفعت رأسها لتلاقي عينيه عيناها، كانتا تلمعان اشراقا و براءة. و اعتلى أعلى وجنتيها حمرة طبيعية طفيفة قبل أن تبتسم بإشراق، آسرة لقلوب كل من يراها.
كانت رهف جميلة بحق. لم يكن ذلك الجمال الطاغي الصارخ و الجريء مثل مها, بل كان لديها لمسة من الحياء الأنثوي الذي يجعل المرء ينجذب إليها لكن لا يقوى على الاقتراب منها. كأن الاقتراب منها سيخيفها و يجعلها تهرب بعيدا.
لم يجد عامر كلمات يتفوه بها فنطق أول شيء أتى على باله "مرحبا."
"أهلا بك." ردت عليه رهف و ازدادت ابتسامتها عمقا حتى لاحت أسنانها. البريق في عيناها ازداد توهجا.طأطأ عامر رأسه مرة أخرى، غير قادر على مواجهتها.
ساد الصمت مرة أخرى حاول عامر كسر هذا الحاجز لما أتاه صوت رهف الهادئ "لقد سمعت الكثير عنك من حازم."
"حازم؟ أتعرفين حازم؟" رفع عامر رأسه فجأة و عينيه مملوءتين بالدهشة.
"لم يخبرك حازم؟". رفعت رهف حاجبيها في تعجب.
"صحيح انه هو الذي كلمني عنك لكنه لم يخبرني أنه يعرفك." شعر عامر بالارتباك فجأة. هل أخفى حازم أمرا مهما عنه؟
تبسمت رهف بينما ضحك والدها بمرح و هو يقول "حازم ذلك الشقي، كان يتلاعب بك. لا أصدق أنه لم يخبرك شيئا مهما كهذا."
راحت عيني عامر تموج بين رهف و والدها في ضياع إلى أن قررت الفتاة ان تشفي فضوله " إن حازم ابن خالتي و أيضا شقيقي من الرضاعة."
"..."
لم يعرف عامر كيف يواجه هذا الخبر. أيفرح لأن رهف شقيقة حازم من الرضاعة أم يغضب لأن هذا الاخير أخفى أمرا مهما كهذا عليه. لا عجب أنه لم يتوقف عن مدح رهف و الثناء عليها و إلحاحه عليه أن يزورها. عليه أن يلتقي حازم ليشرح له لماذا تستر عن أمر مهم كهذا.
يبدو ان موضوع حازم قد أراح الجو المشحون في الغرفة. تبادل عامر بعض الأحاديث مع رهف برأس مطأطأ. لكنه كان يسترق نظرات خاطفة لها من حين لأخر بسرية.
رهف هي الأخرى لم تجرأ على النظر إلى عامر مباشرة، فكانت تحدق في كوب العصير الموضوع أمامها. لكنها كانت تلمح الشاب من طرف عيناها من حين لآخر بشيء من الفضول و التمعن و كثير من الحياء.
لمح والد رهف لها بالمغادرة فهمت بالوقوف. لكن قدمها تعثرت في الطاولة و كادت أن تسقط لولا مساعدة والدها لها و امساكا من ذراعها. كتمت مها صرخة ألم و هي تعض شفتيها.
"هل أنت بخير؟" سأل عامر بقلق و اهتمام.
"انا بخير." ردت رهف بابتسامتها المعتادة و هي تحاول تلطيف الجو. لكن وجهها كان مصفرا بعض الشيء.
لاحظ عامر ذلك و سألها بتوتر واضح "أيؤلمك قدمك؟"
"لا عليك إنها إصابة خفيفة." طمأنت رهف.
لمح عامر رهف ترتدي حذاء ذو كعب. رغم أنه لم يكن عاليا لكن من الواضح أنه ليس مريح. قطب حاجبيه قبل أن ينصحها برفق "من الأفضل ان لا ترتدي احذية ذات كعب في هذه الفترة. انتظري حتى تشفى قدمك كليا لترتديها فصحتك هي الاهم."
نظرت رهف الى عامر بدهشة و انبهار شديدين و احمرت عيناها. عضت شفتاها و ارتعشت يداها قليلا. تغيرت عبارات وجهها فجأة حتى خيل لعامر أن الفتاة ستبكي في أية لحظة. نسي عامر خجله و بقي يحدق في وجه رهف بخوف و ريبة. هل قال شيئا خاطئا الآن؟
سعلة جافة من والدها أعاد رهف إلى الواقع. أومأت برأسها قبل أن تخرج من الغرفة بخفة. أدرك عامر أن ما قام به من تحديق غير لائق فطأطأ رأسه خجلا.
عندما حان وقت المغادرة. ودع عامر والدي رهف و خرج مع والدته و عمته.
و في طريق العودة بدأت النسوة بالحديث "رهف فتاة رائعة و ودودة فعلا." كانت ام عامر راضية عن هذه الفتاة فقد أعجبها حياءها و عفته و رزانتها. وافقتها العمة بابتسامة عريضة.
همهم عامر في شرود و وجه رهف يمر بين عينيه. لم يستطع فهم ما الذي حدث لرهف آنذاك. لماذا لاح في وجهها تلك النظرة المملوءة ألما و حرقة؟ ما الذكرى التي مرت في خلدها و التي جعلتها ترغب بالبكاء؟
و بينما هم في الطريق استوقفهم صوت من وراءهم. " انتظروا رجاء." لقد كان والد رهف و في وجهه ابتسامة عريضة مبشرة "لقد قالت رهف أنها موافقة."
صعق عامر من كلام الرجل "ألا تحتاج مزيدا من الوقت للتفكير؟"
"تقول انها اعطت موافقتها المبدئية. من الجيد أن تكون الخطبة رسمية مع إطالة مدتها حتى تتعرفا على بعضكما جيدا." ضحك والد رهف براحة و انشراح كبيرين.
"إذن سوف نعود للحديث في التفاصيل غدا." اقترحت والدة عامر و وافق والد رهف على ذلك سريعا. تم الاتفاق بسرعة و سهولة حتى ان عامر لم يستوعب ما حدث.
مع مها تأجلت خطبته لخمس سنوات حتى تنهي دراستها ثم ثلاث سنوات أخرى لعدم تهيئه المادي. لكن مع رهف تم كل شيء في ظرف يوم واحد فقط. أحس عامر كأنه في حلم.
في اليوم الموالي زار عامر و أسرته منزل رهف مرة اخرى. هذه المرة انضمت هند للقاء زوجة أخيها المستقبلية.
تم الاتفاق على تفاصيل الخطبة، لم تشترط رهف مهرا غاليا او هدايا باهضة الثمن, كان ما شيء بسيطا. كما تم الاتفاق على أن يتم الزفاف بعد سنتين حتى يتعرف الخطيبين على بعضهما بشكل جيد.
و في طريق العودة، هنأت هند أخاها "انا سعيدة لك يا عامر فرهف فتاة رائعة."
كانت كلا من هند و رهف مولعتان بالأدب العربي، و كلتاهما معلمتان تدرسان في المرحلة الابتدائية و إن كانتا تعملا في مؤسستين مختلفتين. انسجمت الشابتان من اول لقاء و احستا بالألفة و الأخوة بينهما.
بقيت هند تروي تفاصيل لقاءها القصير مع رهف في مجلس النساء. بطبيعة الحال في ذلك الوقت كان عامر مع والد رهف في غرفة اخرى. لكنه تمكن من مقابلة مها لمدة قصيرة.
"هذا هو رقم هاتفي" اعلمته و هي تدس ورقة صغيرة في يده قبل ان تشغل شاشة هاتفها لتضيف "هذه هي صفحتي الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي. أضفني لقائمة أصدقاءك."
أخذ عامر قصاصة الورق من جيبه و بدأ يفتحها. حدق في مجموعة الارقام المكتوبة فيها. هذا رقم هاتف رهف، و خط يدها الجميل. ابتسامة صغيرة لاحت في شفتي عامر و هو يخبأ الورقة في جيبه.
****************
في الصباح استيقظ عامر على صوت نغمة هاتفه الذي استقبل عدة رسالات نصية. فتح عينيه ببطيء بينما رنين الهاتف صخب غرفته مسببا ألما في رأسه. استلقى على سريره و هو يمسح جبهته بيده, عيناه مغمورتان نعاسا. لاحظ أن الساعة المعلقة في الجدار تشير إلى السابعة إلا ربع. من الذي قد يراسله في هذا الوقت؟
بتكاسل و تراخ, أخذ عامر هاتفه بين يديه و حدق في شاشته ليقرأ الرسالة التي وصلته: الجو بارد و ممطر اليوم. لا تنسى ان ترتدي معطفا و تأخذ مظلة معك.
يبقي عامر يرمق هاتفه و هو يحك عينيه من النعاس. هل هذه رسالة من مصلحة الأرصاد الجوية؟ لكن اسم المرسل هو رهف. فجأة رن هاتفه و اهتز مرة أخرى, لقد تلقى رسالة جديدة، هذه المرة عبارة عن صورة.
بقي عامر يحدق في شاشة هاتفه بتمعن. لم يتوقع أن تسبقه رهف في مراسلته, و الأدهى أنها أرسلت رسالة كهذه. لا بد أن الصورة قد التقطتها من نافذة غرفتها بعد سقوط المطر.
بعد لحظات تذكر أن لمواقع التواصل الاجتماعي خاصة تسمح للمرسل أن يعرف إذا تمت قراءة رسائله أم لا. لا بد أنها تدرك بأنه رأى رسالتها لذلك من الأفضل أن يرسل لها ردا بسرعة.
عامر: صباح الخير.
رهف: صباح النور.
عامر: لقد استيقظت مبكرا.
رهف: هذا هو موعد استيقاظي المعتاد. هل أيقظتك؟
عامر: نعم و أنقذتني من تلقي توبيخ من مديري. 🤭🤭
رهف: آسفة لم أقصد ازعاجك.
عامر: لا بأس فهو موعد الاستيقاظ غلى أية حال.
وهف: لن أضيع وقتك أكثر إذن.
عامر: اعتني بنفسك. و لا تنسي أن تتدثري بملابس دافئة فالطقس بارد.
رهف: سأفعل. أنت أيضا اعتني بنفسك. ☺☺ 🌂🌂
ابتسم عامر قبل أن يعد نفسه للذهاب للعمل. و بينما هو في الحافلة تساءل في خلده إنا كانت رهف قد وصلت المدرسة ام لا. هل أستطيع إرسال رسالة لها؟ فكر بتردد و هو يحدق في رقم هاتفها على شاشته المضيئة. لن تظن أنني مزعج أو أني أتعقبها أليس كذلك؟
بما أن رهف هي التي راسلته أولا هذا الصباح قرر أن يبادر هو هذه المرة. بحركات خفيفة من انامله أرسل عامر لرهف رسالة.
عامر: هل وصلت للمدرسة؟
رهف: أكاد أصل أنا في الطريق.
كان الرد مباشرا و سريعا. تردد عامر للحظة قبل ان يرسل مجددا : عندما تصلي أخبريني.
فكر عامر قليلا قبل أن يضيف: لأطمئن عليك.
رهف: حسنا 👍👍
شعر عامر بالراحة لما رأى رد مها. انحنت شفتاه في ابتسامة صغيرة قبل أن ينزل من الحافلة متجها لمقر عمله. لم يتوجه مباشرة إلى مكتبه بل عرج إلى الفرع الإداري للمؤسسة. حدق في الموظفين واحدا تلو الأخر إلى ان لاقى وجها مألوف.
في نفس الوقت كان حازم متكأ من وراء مكتبه ينظف نظارته بتمعن قبل أن يباشر عمله عندما أحس بيدين ثقيلتين على كتفه جعلته يقشعر فزعا.
"يا رجل لقد أخفتني." اشتكى حازم صارخا "كان بإمكانك على الأقل أن تقوي وقع خطواتك حتى أعرف أنك قادم. لقد كدت توقف قلبي من الفزع."
رمق عامر صديقه بنظرة غريبة قبل أن يلومه "الا تدين لي بشرح و اعتذار؟"
"على ماذا؟" سأل حازم متظاهرا بالجهل.
تجاهل عامر النبرة الساخرة لصديقه و أكمل "لماذا لم تخبرني بأنك ابن خالة رهف بل و شقيقها من الرضاعة أيضا. هل أعجبتك فكرة إحراجي أمام خطيبتي؟"
تلفظ عامر بالكلمة الأخيرة عن غير قصد لكن شعورا عجيبا تملكه حين فعل ذلك.
"من نبرة صوتك يبدو ان الامور جرت فعلا بطريقة حسنة كما أخبرتني خالتي." تنهد حازم "ماذا عني إذن؟ متى سألتقي برفيقة دربي؟
"انت لم تجب عن سؤالي بعد." ألح عامر بإصرار
رمق حازم صديقه بعمق قبل أن يطلق تنهيدة طويلة محملة ببعض الأسى "لقد كنت قلقا من رفضك."
"و لماذا سأرفض؟" قطب عامر حاجبيه.
"بسبب... أنت تدري... ما حدث بين مها و شقيقتك. عندما تركتك مها تخلت ايضا عن صداقتها مع شقيقتك. لقد كنت قلقا من أن ترفض ملاقاة رهف في حالة ما علمت بهذا خوفا من أن تسوء العلاقة بيننا إذ لم ينجح الأمر. لكن رهف فتاة طيبة و لا تقارن مع مها لذلك لم أكن قلقا حيال هذا الموضوع."
نظر حازم إليه و أوضح بكل جدية "تذكر عامر. مهما كانت علاقتك مع رهف، أنا و أنت سوف نبقى صديقين، دوما. صحيح أنني أتمنى أراها أن تصبح زوجة لك لكن لا شيء سيتغير بيننا إذا لم تتفقا أنتما الاثنين."
شاهد عامر صديقه و هو يتلفظ بهذا الوعد. شعر براحة كبيرة فرد عليه "شكرا لك حازم."
شكرا لوقوفك معي في كل مصاعبي و مصائبي. في هذه الايام الأخيرة منذ انفصاله عن مها، حاول حازم أن يشغله بكل الطرق لكي لا يفكر في تلك الجشعة. فكان تارة يجبره على مرافقته لصالة الرياضة. و تارة أحرة يهديه كتابا و يحثه على قراءته لكي يناقش أحداثه معه, حتى أنه حفزه على مرافقته للسياحة في احد المدن الأثرية القريبة.
"لا داعي للشكر بين الأصحاب." قالها حازم بفخر و اعتزاز.
رن هاتف عامر فجأة بنفس الرنة المعتادة. فتحه ليجد أنها رسالة من رهف مصحوبة بصورة لوردة حمراء.
رهف: لقد وصلت للمدرسة. هذه الوردة مغروسة امام المدخل. جميلة، أليس كذلك؟ 🌹🌹🌹
رن الهاتف مرة أخرى فقد أرسلت رهف رسالة أخرى.
رهف: الأزهار تكون أجمل بعد سقوط المطر متزينة بقطرات الماء كلؤلؤ منثور.
تمنع عامر في الصور عندما وصلته رسالة رهف الجديدة.
رهف: أيهما تفضل؟ الحمراء أم الوردية؟
ابتسم عامر قبل أن يرد: كلاهما, أنا لا أستطيع الاختيار.
رهف: فعلا الاختيار صعب في هذه الحالة. 🤔🤔🤔
رهف: علي الذهاب فقد حان وقت بداية الصف. أنت أيضا لا تتأخر عن عملك.
عامر: حسنا, سأراسلك لاحقا.
رهف: بالطبع.
قام عامر بتكبير الصور و التمعن فيها, فهي جميلة فعلا. رأى حازم الصورة أيضا فقال "لا بد أن هذه الصورة قد أرسلتها رهف لك أليس كذلك." ضحك قبل أن يضيف "عليك أن تفرغ ذاكرة هاتفك فرهف مصورة فوتوغرافية هاوية و على الأرجح أنك ستتلقى عدة رسائل كهذه من الآن فصاعدا."
أن يتلقى عدة رسائل كهذه يوميا، أليس هذا أمرا جميلا؟ سوف تشعره رهف أنها دائما معه. هي ليست هنا لكن آثارها باقية معه. ليست مثل مها التي لا تهتم به البتة و ترفض حتى الرد على اتصالاته و رسائله بمختلف الحجج الواهية التي لا تقنع حتى الأطفال.
مها، تذكرها عامر. يبدو أن حضورها في حياته بدأ ينقص شيئا فشيئا منذ أن بدأ بقضاء وقت أكثر مع حازم، و بهتت ذكراها أكثر مع وجود رهف. لكن ليس من الجيد أن يتذكرها كل يوم بهذا الشكل, ليس عادلا لرهف.
ربما، ربما هو فعلا يستطيع نسيانها مع حضور رهف في حياته. شيئا فشيئا فلن تصبح مها سوى ذكرى يضحك فيها على سذاجته.
شاهد حازم صديقه قبل أن يهز رأسه يحزن و هو يتمتم "متى سألقى شريكة حياتي التي ستجعلني أبتسم ببلاهة مثله؟
الجزء الثالث تجده هنا.
التعليقات