أحيانا أرغب في...

مرحبا، أدعى خالد، وخالد ليس اسما على مسمى فأنا إنسان، والناس تموت ولا تخلد، خصالي، يصفني أصحابي بالحليم الصبور، فيما يصفني زملائي بالأُذْن، أتعرف ما معنى الأُذْن؟ الأذن حسبما أعلم هو الساذج الضعيف الذي يسخر منه كل من هبَّ ودبَّ، الأذن هو من يصدق كل ما يقال له، الناس وصمتني بهذه الصفة، ولكني سأحكي لكم اليوم كيف تغيرتُ...

حين كنت في السنة الثالثة متوسط كنت أرسم، كل أصدقائي كانوا يعرفون ذلك، لم أكن بارعا كرسامي اللوحات والرسومات ثلاثية الأبعاد، ولكني لم أكن سيئا بقدر من يرسم الحصان والبقرة والكبش والحمار حيوانا واحدا لا تميزه إلا بالآذان الطويلة أو القرون الملتفة... أنا متديِّن بالمناسبة، لماذا أقول لك هذا؟ لأني كنت أرسم شبانا بقصَّات قزع لم يكن الشيطان ذاته ليفكر بها لو عمل حلّاقا، كنت أرسم شابًّا قصير اللحية له شعر مصبوغ أشبه بعرفِ ديكٍ أحمرٍ، يرتدي قرطين، كنت آنذاك متأثرا بإحدى الفرق الموسيقية، المهم أني ذات يوم في القسم جلستُ أرسم متفنِّنا متفانيا في الرسم، أمحو وأصحح كلما انحرف السطر مليتمرا عن المطلوب، حتى أنهيتُ رسمتي وأريتُها للجالس جواري فخورا... فجأة اختطفها زميل آخر يدعى عمر وراح يكلم صاحبه عنها في حماس جذب انتباه الأستاذة فأخذتها منه وقطَّعتها وهي تؤنبني، قلت لعمر : (( إنها غلطتك اللعينة، لماذا أخذتها دون إذني؟ )).

كان عمر كثير الشجار، لا يعرف كيف يجادل بالكلمات، بل يعرف فقط كيف يسدد اللكمات، فمدَّ يده يصفعني بخفة، صفعة الإهانة تلك التي تريق ماء الوجه وتجرح الكرامة وتكاد تنطق متحدية : (( أنت لا تستطيع فعل أي شيء )). ثارت ثائرتي ورددت الصفعة بمثلها دون تفكير، ولو كان لي أن أفكر لخطر لي هذا : تختطف الورقة التي تفانيتُ في رسمها وتكون سببا في تمزيقها، ثم وكأن هذا لا يكفي تصفعني في وجهي أيها الحقير.

قام عمر من مقعده ووقف أمامي، ويداه مضمومتان على جانبيه إثر صفعتي، ثم أمام أعين جميع رفقائي الطلبة سدّد لكمة قوية دون سابق إنذار مباشرة إلى فمي – شفتي العلوية تحديدا - ، أتعرف التعبير " قبضة حديدية " ؟... هناك من له قبضة ليست حديدية فقط بل هي علاوة على ذلك حادّة، أعلى أصابعه حيث العظم الذي يصل اليد بالأصابع، عظمه ذاك كان مدبَّبًا كالأنياب، كانت قبضة عمر فكَّ قرش حقيقي، تخيل قرشا يُقَبِّلك، حتى أكثر الرومانسيين خبالا وجنونا بليلى أو بغيرها لن يرغب في هذه القبلة، تخيل المشهد معي لحظة :
تلامست الشفاه في رقة، ثم ابتعدتا، مهلا... الرومانسي مرعوب، دعونا نتقدم إليه ونلقي نظرة على السبب الذ... آه، تبا! نصف لسانه
مقطوع! أين طارت شفتاه بحق اللعنة؟! انظروا إلى نبع الدماء ذاك الذي يتدفق من فمه – أو الثقب الذي كان ثغره بالأحرى – ليسيل شلالا على ذقنه ليصب على ثوبه الأبيض، قبلة حمراء حقا..

حسنا، لنعُد إلى... شعرتُ بمذاق الدَّم على لساني، تبّا للثة التي تنزف بسهولة! شعرت بكل قطرة دم كلها تنتقل آنِيًّا من مختلف أطراف جسدي لتحتشد كلها في وجهي، أحسست بالدموع تملأ عيناي، تبا للدموع الخائنة! النساء تخونهن الدموع حين لا تسيل، الرجال تخونهم دموعهم حين تنهمر، أنا لا أشعر بالألم أيتها الدموع الحقيرة ارجعي إلى أوكارك عليك اللعنة، في لحظة انفجرت كل هذه الأحاسيس والخواطر في نفسي، وصرختُ في عمر بكل الغضب والغل الذي أشعر به يغلي ويكتوي داخلي : (( اخرج لي بعد أن ينتهي الدّوام وسأريك )). وفقط عند هذه اللحظة قررت الأستاذة التي كانت تخطُّ تُرّهاتٍ ما على السبورة ملتهية عن اللكمة والصفعتين أن تلتفت لترى من يُحدث الفوضى، رأتني دامع العينين، ولم تقل شيئا، عودي إلى نومك ولا تستيقظي الآن أيتها الأستاذة المأفونة، فلولا التفاتك الآن لثأرت لنفسي ورددت له اللكمة، بعد أربع ساعات من الانتظار قضيتها في الاستماع إلى الزملاء الذين راحوا يقولون مندهشين : (( أحقا ستفعلها؟ أحقا ستضربه؟ ))، يسألون هذا لأن ذلك الوغد قوي رغم نحوله وهو معروف بمعاركه الدامية التي يخرج منها منتصرا في كل مرة فلكأنه خالد بن الوليد الذي لم ينهزم أبدا، يسألون هذا لأني في المقابل غاندي المدرسة، معروف بسلميتي فأنا أقرب إلى جرو لطيف بريء في وجار كلاب بيتبول غاضبة، والحقُّ أني لا أجد دافعا إلى العراك والشجار إلا سب والديَّ أو التهجم علي، وأتحمل كل هذا ما دون هذا من الألقاب الهازئة والسخرية والمقالب بحلم وصبر، فهو كما ترون محنك وأنا ساذج لا خبرة لي، وهو ذو القبضات الحديدية وأنا ذو العضلات الهزيلة، على من ستراهنون؟... عليَّ؟ أأنتم مجانين؟ أنا نفسي سأراهن ضدي...

لم يكن هدفي من الشجار الانتصار بأي حال، بل كان هدفي أن أؤذيه وأضره حتى لو كانت إصابته أقل وإصابتي أبلغ، كانت نيتي أن أقاوم وأبين له أني لستُ حمارا يُجلدُ فينهق ويتابع سيره، وحين خرجنا انتظرته ليأتيني زميل يسمى أمين، هذا الزميل هو أكثر التلاميذ الذي التقيت بهم جنونا، فهو لا يحترم نفسه ولا غيره، ولا يهتم بنظرة الناس إليه، يبصق، ويتنخم، ويتجشؤ بصوت عال، ويفعل ما هو أسوأ، وكل هذا جهارا وعلانية، هذا الزميل وقف بيني وبين عدوي يمثل دور المصلح، ويقول لنا : (( تسامحوا فأنتم إخوة في الله، تصالحوا... لا تسمحوا للشيطان أن يوقع بينكما... إلخ )). وأنا أرى خصمي هناك على بعد ذراعين مني ولا أستطيع أن أنال منه، أنا لي خصلة سيئة وهي أني دائما حين القتال أنتظر من خصمي أن يلكم أولا، وعمر اللعين وضع يديه وراء ظهره ووقف يستمع للنصيحة ويتفرج مسترخيا، لأنه قد سدد لكمته الأولى بالفعل، سددها في القسم، وقد شبع واكتفى، أخيرا تدخَّل وقال حين أنهى أمين موعظته فوجد مني صمتا وسكوتا لا يدلُّ على الرضا : (( إنه مغتاظ حزين )).

ماذا قال؟! ماذا قال؟!! أجبته والغيظ يكاد يشويني من الداخل : (( دعني أحطم فكك بلكمتي ولنر إن كنت ستظل هادئا رزينا بعدها )). تلت عبارتي هذه لحظة صمت، صمت مشحون بالتوتر كما لو كان أمريكا وكنت روسيا خلال الحرب الباردة، الكل يترقب، يترقب ماذا؟ يترقب لكمتي النووية... قال أمين أخيرا حين أدرك أني لن أسقط القنبلة : (( هيا صافحا واصفحا ))، هذه العبارة ابتكرتها أنا للتو، ويا له من جناس بديع فيها... قال أمين شيئا بهذا المعنى ولكن ليس بهذه البلاغة، فمددت يدي و... صافحته مصافحة قصيرة خفيفة كادت يدانا ألا تتلامسا خلالها، ومشيتُ مباشرة بعدها مبتعدا عن كليهما، وأنا أحاول أن أكظم كل ذاك الغيظ الذي تجمع في حلقي، دائما حين أغضب أشعر بذاك المذاق المر الحارق في حلقي، فأبتلعه وأتجرعه، أتعرف صعوبة كظم الغيظ؟ إنها مثل محاولة إيقاف بركان عن الانفجار، في طريقي إلى منزلي فكرت في مدى سخافة أمين؟ أمين ذاته لو حدثت له مشكلة مع عمر لأبى أن يتصالح ويتسامح، ثم أدركت فجأة مدى عطف أمين، فهو لا بد يعرف أن زميلي عمر سيمسح بي الأرض، كل زملائي عرفوا هذا وتركوني أواجهه دون تدخل، إلا أمين فهو الوحيد الذي أشفق علي من الهزيمة فأنقذني. كنت أحيانا أتخيل نفسي أني أتشاجر مع عمر، كل شيء يجري بيسر في الخيال، كل لكمة تضرب الموضع المستهدف، كل ركلة تسبب التأثير المطلوب، الخصم لا يرد ولا يتفادى بل يقف هناك كالصنم فيما أنا أهوي عليه محطما كإبراهيم عليه السلام، ولكن الواقع شيء آخر، القوي يتنمر والضعيف يقاوم فينهزم، هذه هي الحياة، ولكن القوي ليس الأقوى، ولابد أن أحدا سيفعل بعمر ما فعله بي ولسوف يذيقه طعم الخزي، لن أكون هناك لأشهد هذا ولكني واثق من عدل الإله، ربي سيتكفل به.

مهلا... هل انتهت القصة؟ أين التغير الذي وعدتنا به؟ وفيم ترغب أحيانا؟... سأجيبك عن السؤال الثاني أولا، أحيانا أرغب في قتل من يتنمرون علي، أحيانا أتخيل نفسي أفعلها، ويا لها من خيالات تراودني، ولكني لا أنفذها في الواقع، أنا منطقي، أحسب المضارَّ والفوائد ثم أقرر، السجن مدى الحياة ثم جهنم، لن يدفعني وغد إلى خسارة كل شيء أبدا، أنا لن أضيع حياتيَّ الاثنتين على حقير لا يستحق. أما عن السؤال الأول فإجابتي هي... التغير هو أني أقاتل الآن، أقاتل وأخسر، أمس فقط تشاجرتُ مع خصم أكبر مني سنا وأقوى جسما، دعوتُه إلى الملاكمة وانهزمت أمامه أربع مرات على التوالي، ولكني كِلتُ له بعض اللكمات القوية، وهذا أرضاني.

ما العبرة من هذه القصة؟ دافع عن نفسك ولا تسمح للناس بالتنمر عليك، وقوِّ نفسك أيضا بالتمارين وحمل الأثقال وممارسة فنون القتال، المهم ألَّا تدع الناس يعاملونك كالكلب الهزيل الذي يمكن لهم ركله دون خوف من عضّته، والآن قد يقول قائل : (( ماذا عن العفو عند المقدرة؟ ))، تستطيع أن تعفو مرة، مرتين، ولكن إن تحمّلت الاضطهاد طول حياتك دون مقاومة فستصبح خرقة لمسح الأرضية، هكذا سيرونك، سينظرون إليك كما لو أنك صرصور حقير يمكنهم متى شاؤوا أن يسحقوه.

أحيانا أرغب في....