ذات يوم...

ذات يوم حين كنت صغيرا وبينما العائلة – بمن فيهم جدتي وجدي – جالسة إلى طاولة الفطور في الصباح الباكر سكبتُ كوب حليبي... سمعت جدي يدمدم ساخطا كما ينبغي له أن يفعل، فقد كانت غلطتي لأني كنت أتحدث بحماس ملوِّحا بيَدَيَّ ذات الشِّمال وذات اليمين مطوِّحا بهما كما لو أني أصفع الملل وألطم الضجر طاردا إياهما كما صفع حسين داي ذاك القنصل – أو أشار له بالمروحة ليخرج في رواية أخرى – أصفعه وأقول له كأحمد خالد توفيق : (( لا مكان لك هنا )). ما هي العبرة من هذه الحادثة؟... أبدا لا تلوِّح بيديك حين يكون أمامك شيء ينسكب، إنه درس قيم وأنا واثق في أنك ستستفيد منه في حياتك كثيرا...

ذات يوم صدمتُ برأسي الجزء السفلي لمقطورة شاحنة، دعوني أحكيها لكم من البداية... كنتُ ذاك المساء في طريقي إلى المدرسة أمشي على مهلٍ مطمئنا للوقت فقد خرجتُ من منزلي مبكرا، وبينما كنت أمشي شردتُ وراحت الأفكار تتقاذفني بينها، أو أنني أنا من كنت أقفز بين الأفكار كما يثب قرد بين الأشجار، فينتقل من واحدة إلى الأخرى، ثم من الثانية إلى الثالثة، ثم يعود إلى الأولى وينتقل منها إلى رابعة، وهكذا دون توقُّف حتى يصدُم غصنا ويسقُط، هذا ما وقع لي بالضبط، لا أدري فيما كنت أفكر ولكني أذكر أن الشمس كانت حارقة ذاك المساء، ثم بينما كنت أسير إذا بالظل يهوي علي دون أشعر، ثم بعد خطوات معدودة رفعت رأسي الذي كان مخفوضا لأصدم الحديد بقوة، كان الألم أخضر فاتحا وفظيعا، أجل... أخضر فاتحا، أنا أعرف أيَّ ألوان العذاب ذُقته ذلك اليوم، ما إن اصطدمت حتى غشى عيني لون أخضر، وإذا بي أدرك أني تحت شيء ما، وحش هائل جثم عليَّ دون أن أشعر، خرجت من أسفله ممسكا برأسي لأرى أن الوحش في الحقيقة مقطورة شاحنة، التفتُّ يمينا ويسارا وأنا أحكُّ رأسي متوجِّسا من لزوجة الدماء التي قد تتدفق منه، لا أحد، لا دم، يا لحظي الطيب، لو رآني أحدٌ وأنا أمشي تحت الشاحنة ثم أرطم رأسي لمات ضحكا مني ولانتحرتُ أنا من العيب والعار...

الدرس المستفاد، لا تمش ورأسك للأسفل، ولا تدع ذهنك يشرُد، وأخيرا حين تكون شمس الظهيرة حارقة ساطعة فلا بد ألَّا تأمن لاختفاءها فجأة دون سبب، هذه النصائح الثلاث الثمينة ستنقذك من صدمات الرأس العديدة التي لابد تسببت في اختلال عقلي الذي أعاني منه الآن!

ذات يوم حين كنت في الابتدائية حسبتُ أن أستاذي عَلِيٌّ - أحد أحسن المدرسين الذين تعلَّمت على أيديهم – أخطأ في جملة كتبها على السبورة، انتظرته حتى يفرغ من كتابته لأصححه، كان لدى الطلاب أناة وصبر في تلك الأيام وكانوا يعرفون متى يسألون وكيف، التلاميذ الذين أدرِّس لهم الآن أشبه بالألغام التي تنفجر دون سابق إنذار، كم قاطعوني وأنا في وسط عبارة على وشك شرح ما سألوه بالضبط، كم كادوا يصيبونني بالصمم من صياحهم الأشبه برنين جرس ليس فيه زر إيقاف : (( أستاذ... أستاذ... أستاذ... أستاذ... أستاذ... أستاذ ))، كم جعلوني أفكر في قطع أذني مثلما فعل ذلك الأخ العبقري الرسام فان جوخ، كم جعلوني أفكر في اقتلاع ألسنتهم القصيرة و... كلا، كلا، أنا أمزح بشأن الفكرتين الأخيرتين، ومزاحي سوداوي...

المهم، كما قلت كنتُ جالسا أنتظر بفارغ الصبر أن ينتهي المعلم من كتابته كي أخبره بخطئه بنبرة تجمع بين الفخر والغرور، نبرة الطاووس لو كان له أن ينطق فتسمع الكلمات تنساب من منقاره مختالة متبخترة متخايلة، فجأة طار بي بُرَاقُ الخيال إلى مستقبل مشرق، تخيلت المعلم يعترف : (( أوه، أنت محق، لقد أخطأتُ فعلا، أنت حقا عبقري لاكتشافك الغلطة ))، تخيلته يعطيني ملايينا من الدينارات، ويدعو الناس ليعلن لهم عن ذكائي الفائق الخارق، تصورتُ الرئيس نفسه يسمع بالخبر فيهرع إلى منزلي حافيا ليُكرِّمني : (( إنه سيبويه وقد بُعث من جديد! )). تخيلت الرئيس يدفنني بأكياس من المال لا تظهر ملايين أستاذي أمامها، تخيلتُ نفسي أشتري بكل ذاك المال الذي أعطياني أحدث طراز من السيارات، تخيَّلتني أركنها جوار بيت جميل، تخيلتُ ابنته – ابنة معلمي – تنتظر رجوعي على أحر من الجمر خلف باب ذلك المنزل، ابنته الجميلة التي كانت تقرأ معي في ذات الصف والتي لا أعرف الآن إن كانت ميتة أو حية، أو مخطوبة أو متزوجة، أو إن كانت قد نالت شهادة الباكالوريا أو لم تفعل، بِنتُه التي كنت أحلُم وأنا ما زلت في الرابعة أو الثالثة ابتدائي بطلب يدها من أبيها، ابنته التي لا أذكر حتى اسمها اليوم ولا أحتفظ في عقلي بصورة لها، ولا حتى برسم تقريبي لها، لقد مُحيت من ذاكرتي نهائيا، كما سيُمسح الكثير من الأشخاص الذين أعرفهم الآن بعد عشر سنين....

(( مساحة التخزين معبّأة بالكامل يا ملكي " العقل " المبجل، ماذا أفعل؟ لا أعرف أين أضع هذه المعلومات الجديدة المتدفقة، كل الرفوف والأدراج ممتلئة )). (( الحل بسيط أيتها الوزيرة " الذاكرة "، تخلصي من المهملات، كل المعلومات التي لم يعد يكترث لها ولا يسترجعها اقذفي بها في واد النسيان، مثلا... هذه الفتاة؟ من هي؟ )). (( إنها ابنة أستاذه الذي يعظِّمه ويبجِّله، الفتاة التي كان يحلم بخطبتها يوما )). (( هاهاها... يا للبراءة والسذاجة، كان ذلك قديما حين كان الغِّرُّ الساذج يظن أنه بعد الزواج سيلعب معها الغميضة والمساكة طوال اليوم، والآن بعد أن اطَّلع على السر وانكشفت له الحقيقة خليعة سافرة، هوى حلمه من سماء الأمل وتهشم شظايًا على قارعة طريق الخيبة الموحل، ألقيها في الواد أيتها الوزيرة )). (( ولكن يا جلالة الملك... إنها حبه الأول والأخير )). (( قلتُ : (( اقذفي بها خارجا، واقذفي أيضا بكل صديق تشاجر معه وحزن على فراقه أياما فقد نسيهم ولم يعد لوجودهم أدنى قيمة عنده ))، الرومانسية والعشق لا يعنيان شيئا لهذا الشاب غريب الأطوار فهو لا يكترث لهما مقدار ذرة الآن، وهو مصمم على قضاء بقية حياته أعزبا كراهب زاهد، ألا ترينه في الجامعة - فيما كل شاب يغازل رفيقته، أو يحاول جهده لاجتذاب واحدة بالملابس الأنيقة وقصَّة الشعر الرائعة والعضلات المفتولة – يمشي كالمتشرد، ببذلتين قديمتين يبدِّل بينهما كأنهما ليله ونهاره، لا يلبس غيرهما أبدا، وبشعر أشعث لا يسرِّحه ولا يغسله بالشامبو ولا يدهنه، وبجسم هزيل لا يقوِّيه بالرياضة وبلحية قصيرة كثَّة لا يشذِّبها ولا يهذِّبها، إنه لا يحاول أن يجذب بل هو يفعل وسعه لينفِّر الناس منه، لابد أن تلك الصدمة القوية التي تلقَّاها من الشاحنة أفقدته صوابه، لهذا تخلصي من صورة تلك البنت ومن اسمها ومن شكل عينها ولون شعرها، اتركي فقط ذكريات مشوشة عنها لا تستطيع أن تميِّز وجهها فيها أو تتبيَّنه )). (( أمرا وطاعة يا جلالة الملك الأوحد )). (( أجل، أنا الملك الوحيد هنا منذ أن وأد الفتى قلبه )).

آه... يا إلهي، لقد خرجنا من القصة، أين توقفنا؟ لقد نسيت... مهلا، أنا أتذكر...

استيقظت من المستقبل الزاهر الباهر الذي رسمه خيالي لأجد المعلم قد استدار بعد أن فرغ من كتابته فأسرعت برفع يدي وبادرته : (( يا أستاذ، لقد أخطأت هناك، كتبتَ كذا والصحيح كذا )). فأجابني الأستاذ بنبرة ضجرة ملول كما لو أنها لهجة الكسلان لو كان ينطق، فتخرج الكلمات من شفتيه زاحفة ببطء كالحلازين : (( لا، أنت المخطئ، فأنا كتبت كذا لأني قصدت شيئا آخر وهو... ))

عبارة واحدة حطَّمت ذلك الحلم الجميل فكأنما هما الطائرتان تصدمان ذاك البرج في الحادي عشر من... أنتم تعرفون عما أتحدث، الدرس المستفاد من هذه اللحظة...

أعِد التفكير مرارا وتكرارا في القول قبل أن تلفظه، وانظر إليه من جميع الزوايا وتأمله من كل النواحي، ثانيا، لا تستغرق كثيرا في أحلام اليقظة والآمال الزائفة وخيالات المستقبل البرّاقة فلا أحد يعرف ما سيأتي، قد يكون الموت هو القادم لذا نصيحتي لك هي أن تتوقع الأسوأ حتى يبدو كل ما يحدث جميلا رائعا مقارنة بما توقعته، ثالثا، تزوَّج!... مهلا، ماذا؟...صحيح أني شخصيا لن أفعل ولكن لا تتخذني قدوة فأنا حالة خاصة، ولي مبرراتي التي اقتنعتُ بها. ( لم أُرِدْ أن أستعمل عبارة " الشاذُّ لا يُقاس عليه " لأن هناك بعض الملاعين الذين س.... ).

هذه بضع لحظات من بين تسعة عشر عاما شاركتها مع العالم، لماذا يجب أن يكون للقصص عبرة واحدة واضحة؟ نحن لا نعيش بهذه الطريقة، نحن نواجه عدة مشاكل في آن واحد، نضع نصب أعيننا عدة أهداف، تصادفنا عدة عواقب، لنا عدة أعداء، وعندنا أيضا عدة أصحاب، وتستحوذ على عقولنا عدة أفكار.

أعتقد أن حَيَوَاتِنَا قصصٌ نحن من نكتبها، قصص كل منا البطل فيها، نحن لا نتحكم إلا بأنفسنا فيها، نتحكم بأفعالنا وردود أفعالنا، هناك منا من يكتب حكاية باهرة رائعة يقتدي الناس بالبطل فيها ويحتذون، وهناك من يؤلف قصة مأساوية حزينة يعتبر الناس بمصير بطلها المعذَّب بنتائج اختياراته السيئة.... هذه هي الكوميديا والتراجيديا التي نصادفها يوميا في الحياة الواقعية.... الروايات والقصص الخيالية لا تنزل وحيا من السماء، فالإلهام يعثر عليه المؤلف على الأرض في الناس حوله، فهو ليس إلا مرآة تعكس حاله ومشاكله وثقافته، وحال المجتمع من حوله وعقليته. ولكن هناك مشكلة واحدة نواجهها حين نروي حكاياتنا الشخصية فنحن لا نملك النسخة الكاملة المثالية لقصصنا الخاصة نفسها، نحن ننسى الكثير من الأحداث والوقائع، وتخفى علينا الكثير من الأسرار والخبايا، لهذا نجد في التاريخ روايات مختلفة متضاربة، لأن عقولنا ناقصة وذاكراتنا خوّانة، ومعرفتنا مهما كبرت ووسُعت غير تامّة فالحقيقة الكاملة لكل ما مضى وما يحدث وما سيأتي لا يعرفها إلا واحد، الإله، أتعرف ما سأفعل؟ سأضيف شيئا إلى قائمة أمنياتي التي سأحققها إن وفقني الله لدخول جنته...

الأمنية رقم 12 : قراءة رواية حياتي كاملة تامة من غير نقصان، بكل تفاصيلها وأحداثها وشخصياتها.

ولكني سأروي لكم لحظات من حياتي حسب ما أذكره، وسأحاول أن أجمع في كل عدد باقة مسلية ومفيدة و...

- بمن تعبث؟ أتهزأ بنا نحن القراء؟ هذه ليست قصة لعينة! - كلا، إنها جزء صغير من قصتي، فأنا أحاول أن آتي بشيء لم يسبق... - تبا لهذا الهراء، أريد حكاية عادية، عقدة وحلها... بطل ورفاقه، وعدوُّه وأتباعه. - حسنا... حسنا، في المرة القادمة س... مهلا، ماذا؟! لقد أغلق الخط علي! هذا جزاء من يحاول ابتكار جديد.

ذات يوم....